خطبة الجمعة القادمة بعنوان : اليقينُ حصنُ الإيمانِ في مواجهةِ الإلحاد ، للدكتور أحمد رمضان
إعداد: رئيس التحرير الدكتور أحمد رمضان لـ صوت الدعاة ، بتاريخ 4 ربيع الثاني 1447هـ، الموافق 26 سبتمبر 2025م

خطبة الجمعة القادمة بعنوان : اليقينُ حصنُ الإيمانِ في مواجهةِ الإلحاد ، إعداد: رئيس التحرير الدكتور أحمد رمضان لـ صوت الدعاة ، بتاريخ 4 ربيع الثاني 1447هـ، الموافق 26 سبتمبر 2025م.
الملف الكامل (7 صفحات): لتحميل خطبة الجمعة القادمة 26 سبتمبر 2025م بصيغة word بعنوان : اليقينُ حصنُ الإيمانِ في مواجهةِ الإلحاد ، إعداد: رئيس التحرير د. أحمد رمضان لـ صوت الدعاة.
الملف المختصر word (4 صفحات):
الملف الكامل (7 صفحات): لتحميل خطبة الجمعة القادمة 26 سبتمبر 2025م بصيغة pdf بعنوان : اليقينُ حصنُ الإيمانِ في مواجهةِ الإلحاد ، للدكتور أحمد رمضان.
الملف المختصر pdf (4 صفحات):
عناصر خطبة الجمعة القادمة 26 سبتمبر 2025م بعنوان : اليقينُ حصنُ الإيمانِ في مواجهةِ الإلحاد ، إعداد: رئيس التحرير د. أحمد رمضان.
الْعُنْصُرُ الْأَوَّلُ: مَنْزِلَةُ الْيَقِينِ وَأَنَّهُ أَسَاسُ الْإِيمَانِ
الْعُنْصُرُ الثَّانِي: الأَسْبَابُ النَّفْسِيَّةُ وَالْفِكْرِيَّةُ لِضَعْفِ الْيَقِينِ وَمَظَاهِرُ الإِلْحَادِ
الْعُنْصُرُ الثَّالِثُ: وَسَائِلُ تَثْبِيتِ الْيَقِينِ وَعِلَاجُ أَسْبَابِ الْإِلْحَادِ
الْعُنْصُرُ الرَّابِعُ: مَسْؤُولِيَّتُنَا فِي مُوَاجَهَةِ الإِلْحَادِ وَتَرْبِيَةِ الأَجْيَالِ عَلَى الْيَقِينِ
العنصر الخامس: الخطبة الثانية : تَنْظِيمُ الأُسْرَةِ وَالتَّنْمِيَةُ البَشَرِيَّةُ
ولقراءة خطبة الجمعة القادمة 26 سبتمبر 2025م اليقينُ حصنُ الإيمانِ في مواجهةِ الإلحاد ، إعداد: رئيس التحرير د. أحمد رمضان : كما يلي:
اليقينُ حصنُ الإيمانِ في مواجهةِ الإلحاد
4 ربيع الثاني 1447هـ – 26 سبتمبر 2025م
إعداد: رئيس التحرير د. أحمد رمضان
المـــوضــــــــــوع
اَلْـحَمْدُ لِلَّهِ الْقَائِلِ فِي كِتَابِهِ الْمُبِينِ: ﴿وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ﴾ [البقرة: 4]، جَعَلَ الْيَقِينَ أَسَاسًا لِلْإِيمَانِ، وَمِفْتَاحًا لِلْهُدَى وَالرَّحْمَةِ. نَحْمَدُهُ سُبْحَانَهُ وَنَشْكُرُهُ، وَنَتُوبُ إِلَيْهِ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَأشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، شَهَادَةَ مُوَقِّنٍ بِالْقَلْبِ، مُسْتَسْلِمٍ لِلرَّبِّ، مُتَّبِعٍ لِكِتَابِهِ وَسُنَّةِ نَبِيِّهِ. وَأشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ، وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا كَثِيرًا. أَمَّا بَعْدُ:
العناصر:
الْعُنْصُرُ الْأَوَّلُ: مَنْزِلَةُ الْيَقِينِ وَأَنَّهُ أَسَاسُ الْإِيمَانِ
الْعُنْصُرُ الثَّانِي: الأَسْبَابُ النَّفْسِيَّةُ وَالْفِكْرِيَّةُ لِضَعْفِ الْيَقِينِ وَمَظَاهِرُ الإِلْحَادِ
الْعُنْصُرُ الثَّالِثُ: وَسَائِلُ تَثْبِيتِ الْيَقِينِ وَعِلَاجُ أَسْبَابِ الْإِلْحَادِ
الْعُنْصُرُ الرَّابِعُ: مَسْؤُولِيَّتُنَا فِي مُوَاجَهَةِ الإِلْحَادِ وَتَرْبِيَةِ الأَجْيَالِ عَلَى الْيَقِينِ
العنصر الخامس: الخطبة الثانية : تَنْظِيمُ الأُسْرَةِ وَالتَّنْمِيَةُ البَشَرِيَّةُ
العنصر الأول من خطبة الجمعة القادمة بعنوان : اليقينُ حصنُ الإيمانِ في مواجهةِ الإلحاد ، للدكتور أحمد رمضان
الْعُنْصُرُ الْأَوَّلُ: مَنْزِلَةُ الْيَقِينِ وَأَنَّهُ أَسَاسُ الْإِيمَانِ
عِبَادَ اللَّهِ، الْيَقِينُ هُوَ الثَّبَاتُ وَالطُّمَأْنِينَةُ فِي الْقَلْبِ عَلَى الْحَقِّ الَّذِي جَاءَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ، وَلِذَلِكَ جَعَلَهُ اللَّهُ جَلَّ وَعَلَا أَسَاسًا لِلدِّينِ وَدَعَامَةً لِلْإِيمَانِ. قَالَ تَعَالَى: ﴿هُدًى وَرَحْمَةً لِلْمُحْسِنِينَ * الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ﴾ [لقمان: 3-4].
قَالَ الْإِمَامُ السعدي فِي تَفْسِيرِهِ (ص 40): الْيَقِينُ هُوَ الْعِلْمُ التَّامُّ الَّذِي لَا يَخْتَلِطْهُ شَكٌّ وَلَا رَيْبٌ، الْمُوجِبُ لِلْعَمَلِ”.
وَمِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَانَ دُعَاءُ خَلِيلِ الرَّحْمَنِ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: ﴿رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي﴾ [البقرة: 260]، أَيْ طَلَبَ الْمَزِيدَ مِنْ دَرَجَاتِ الْيَقِينِ لِيَسْتَقِرَّ الْقَلْبُ وَيَزْدَادَ إِيمَانًا.
وَفِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قَالَ: “اعْمَلُوا فَكُلٌّ مُيَسَّرٌ لِمَا خُلِقَ لَهُ» (البخاري 1362، مسلم 2647).
وَهَذَا لَا يَكُونُ إِلَّا بِيَقِينٍ بِقَضَاءِ اللَّهِ وَقَدَرِهِ، وَتَسْلِيمٍ لِحِكْمَتِهِ.
وَاعْلَمُوا – رَحِمَكُمُ اللَّهُ – أَنَّ الْيَقِينَ ثَلَاثُ مَرَاتِبَ:
عِلْمُ الْيَقِينِ: وَهُوَ مَعْرِفَةُ الْحَقِّ بِالْأَدِلَّةِ.
عَيْنُ الْيَقِينِ: وَهُوَ رُؤْيَةُ الْحَقِّ بِالْعَيْنِ كَمَا رَأَى إِبْرَاهِيمُ عَلَيْهِ السَّلَامُ إِحْيَاءَ الطُّيُورِ.
حَقُّ الْيَقِينِ: وَهُوَ مُعَايَنَةُ الْحَقِّ وَمُبَاشَرَتُهُ كَمَا يَكُونُ فِي الْآخِرَةِ عِنْدَ رُؤْيَةِ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ.
قَالَ ابْنُ الْقَيِّمِ فِي مَدَارِجِ السَّالِكِينَ (ج 2، ص 397): “فَأَهْلُ الْإِيمَانِ يَتَقَلَّبُونَ بَيْنَ هَذِهِ الْمَرَاتِبِ، فَكُلَّمَا ازْدَادَ الْعَبْدُ يَقِينًا ازْدَادَ ثَبَاتًا وَهُدًى”.
وَإِذَا نَظَرْنَا – عِبَادَ اللَّهِ – إِلَى أَحْوَالِ النَّاسِ الْيَوْمَ، رَأَيْنَا أَنَّ مَكْمَنَ الدَّاءِ الَّذِي يُصِيبُ الشَّبَابَ وَيُؤَدِّي بِبَعْضِهِمْ إِلَى الْإِلْحَادِ وَالشُّبُهَاتِ إِنَّمَا هُوَ ضَعْفُ الْيَقِينِ؛ فَمَنْ رَسَخَ الْيَقِينُ فِي قَلْبِهِ لَمْ تُزَعْزِعْهُ الْفِتَنُ، وَلَمْ تَغْلِبْهُ الشَّهَوَاتُ وَلَا الشُّبُهَاتُ.
قَالَ رَجُلٌ لِلْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ: يَا أَبَا سَعِيدٍ، نُجَالِسُ قَوْمًا يُخَوِّفُونَا حَتَّى تَكَادَ قُلُوبُنَا تَطِيرُ. فَقَالَ: “لَئِنْ تَصْحَبَ قَوْمًا يُخَوِّفُونَكَ حَتَّى تَلْحَقَ بِالْأَمَانِ، خَيْرٌ لَكَ مِنْ أَنْ تَصْحَبَ قَوْمًا يُؤْمِّنُونَكَ حَتَّى تَلْحَقَ بِالْهَلَكَةِ” (حلية الأولياء لأبي نعيم، ج 2، ص 147). هَكَذَا – أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ – نَفْهَمُ أَنَّ الْيَقِينَ لَيْسَ مَرْتَبَةً نَفْسِيَّةً فَقَطْ، وَلَكِنَّهُ حِصْنٌ مَنِيعٌ مِنَ الشُّكُوكِ وَالْإِلْحَادِ، وَسُورٌ حَصِينٌ يَحْمِي الْإِيمَانَ وَالْقَلْبَ وَالْعَقْلَ.
العنصر الثاني من خطبة الجمعة القادمة بعنوان : اليقينُ حصنُ الإيمانِ في مواجهةِ الإلحاد ، للدكتور أحمد رمضان
الْعُنْصُرُ الثَّانِي: الأَسْبَابُ النَّفْسِيَّةُ وَالْفِكْرِيَّةُ لِضَعْفِ الْيَقِينِ وَمَظَاهِرُ الإِلْحَادِ
عبادَ الله، ما كان الإلحادُ في أيِّ أمةٍ إلا وليدَ ضعفِ اليقين واضطرابِ الفكرِ، وخللِ النفسِ، فالإلحادُ ليس ثمرةَ عقلٍ سليمٍ، بل نتيجةُ أمراضٍ فكريةٍ ونفسيةٍ إذا لم تُعالَجْ، قادت بصاحبها إلى إنكار الحقائق الثابتة.
أولًا: الأسباب النفسية
الفراغ الروحي: النفسُ التي لا تتذوقُ حلاوةَ الذكرِ والإيمانِ يملؤها الفراغُ، فتبحثُ عن أيِّ بديلٍ ولو كان باطلًا. قال ابن القيم في الجواب الكافي (ص 68): “النفسُ إن لم تشغلها بالطاعة شغلتْكَ بالمعصية”. وهذا الفراغُ يقود إلى التشتت والاضطراب النفسي الذي يمهِّدُ للإلحاد.
الصدمةُ والابتلاء: بعضُ الشبابِ إذا أصابتْه مصيبةٌ أو مرضٌ أو فقدُ حبيبٍ تزلزل يقينُه؛ لقصورِ معرفته بحكمةِ الله. قال تعالى: ﴿وَمِنَ النَّاسِ مَن يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةَ﴾ [الحج: 11].
العُزلةُ والاغترابُ النفسي: كثيرٌ من الملاحدةِ يعيشون عزلةً شعوريةً، بعيدًا عن محيطِ الإيمانِ واليقين، فتضعفُ الروابطُ الإيمانية، ويغلبُ عليهم القلقُ والحيرةُ.
ثانيًا: الأسباب الفكرية
الجهلُ بالوحيين الشريفين: من أعظم أسبابِ الشكِّ أن يجهلَ الإنسانُ القرآنَ والسنةَ، فإنهما النورُ والهدى. قال تعالى: ﴿قَدْ جَاءَكُم بَصَائِرُ مِن رَّبِّكُمْ فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ عَمِيَ فَعَلَيْهَا﴾ [الأنعام: 104].
الشبهات الفكرية: الانفتاحُ على أفكارٍ ماديةٍ غربيةٍ بلا علمٍ ولا تمحيصٍ يوقعُ الشبابَ في حيرةٍ، كما قال النبي ﷺ: «إنَّ اللَّهَ لا يَقْبِضُ العِلْمَ انْتِزَاعًا يَنْتَزِعُهُ مِنَ العِبَادِ، ولَكِنْ يَقْبِضُ العِلْمَ بقَبْضِ العُلَمَاءِ، حتَّى إذَا لَمْ يُبْقِ عَالِمًا اتَّخَذَ النَّاسُ رُؤُوسًا جُهَّالًا، فَسُئِلُوا فأفْتَوْا بغيرِ عِلْمٍ، فَضَلُّوا وأَضَلُّوا» (رواه البخاري 100، ومسلم 2673).
ضعف التربية الإيمانية منذ الصغر: قال الإمام الغزالي في إحياء علوم الدين (ج 3، ص 72): “الصبيُّ أمانةٌ عند والديه، فإن عُوِّد الخير نشأ عليه وسعد، وإن أُهمل شقي وهلك”. فالتربيةُ الخاطئةُ تتركُ فراغًا إيمانيًا يستغله أهلُ الإلحاد.
الاغترارُ بالعلوم المادية: بعض الشباب يظن أن العلم التجريبي يُغني عن الوحي، مع أن العلمَ الصحيحَ يقودُ إلى الإيمان، كما قال تعالى: ﴿إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لآيَاتٍ لأُوْلِي الألْبَابِ﴾ [آل عمران: 190]. قال القرطبي في تفسيره (ج 4، ص 310): “لَآيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ الَّذِينَ يَسْتَعْمِلُونَ عُقُولَهُمْ فِي تَأَمُّلِ الدَّلَائِلِ. وَرُوِيَ عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها أَنَّهَا قَالَتْ: لَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَامَ يُصَلِّي، فأتاه بلال يؤذنه بالصلاة، فرءاه يَبْكِي فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَتَبْكِي وَقَدْ غَفَرَ اللَّهُ لَكَ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ! فَقَالَ: (يَا بِلَالُ، أَفَلَا أَكُونُ عَبْدًا شَكُورًا وَلَقَدْ أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيَّ اللَّيْلَةَ آيَةً” إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ لَآياتٍ لِأُولِي الْأَلْبابِ”- ثُمَّ قَالَ: وَيْلٌ لِمَنْ قَرَأَهَا وَلَمْ يَتَفَكَّرْ فِيهَا”. أخرجه ابن حبان (620) صحيح.
ثالثًا: المظاهر العملية لضعف اليقين
التذبذب في الدين، وعدم الثبات على طاعة.
التساهل في المحرمات بحجة الحرية الفكرية.
السخرية من الدين وأهله.
الانبهار بثقافات الغرب المادية.
أيها الأحبة، إننا إذا نظرنا إلى واقع كثيرٍ من الشُّبَّان والفتيات اليوم، وجدنا أن الإلحاد في جوهره أزمة يقين، وأن أسبابه تعودُ إلى فراغ نفسي، وشبهة فكرية، وضعف تربية، وإغراءات ثقافية، ولهذا وجب أن تكون المواجهة بعلمٍ وبصيرةٍ، لا بمجرد العاطفة والانفعال.
العنصر الثالث من خطبة الجمعة القادمة بعنوان : اليقينُ حصنُ الإيمانِ في مواجهةِ الإلحاد ، للدكتور أحمد رمضان
الْعُنْصُرُ الثَّالِثُ: وَسَائِلُ تَثْبِيتِ الْيَقِينِ وَعِلَاجُ أَسْبَابِ الْإِلْحَادِ
عبادَ الله، إذا كانت الأسبابُ النفسيةُ والفكريةُ تفتحُ بابَ الإلحادِ، فإنّ العلاجَ هو بناءُ اليقين في القلوبِ والعقولِ. وليس العلاجُ مجرَّدَ شعاراتٍ أو ردودٍ عاطفيةٍ، بل هو برنامجٌ متكاملٌ من التربية الإيمانية، والتزكية الروحية، والتأصيل العلمي.
أولًا: ترسيخ العلم بالله وأسمائه وصفاته
اليقينُ يبدأُ من معرفةِ اللهِ جلَّ وعلا، قال تعالى: ﴿فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ﴾ [محمد: 19].
قال ابن القيم في مدارج السالكين (ج 2، ص 388): “العلمُ بأسماء الله وصفاته أصلُ كلِّ علمٍ، ومن جهلها لم يعبد الله على بصيرة”. فالمؤمنُ إذا عرف أن الله هو الحكيم في قضائه، الرحيم في أقداره، العليم بخلقه، زالَ عنه الشكُّ، واستراحَ قلبُه من الاضطراب.
ثانيًا: تدبُّر القرآن الكريم
القرآنُ كتابُ اليقينِ والهدايةِ، قال تعالى: ﴿هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ﴾ [البقرة: 2-3].
وفي تفسير القرطبي (ج 1، ص 161): “خَصَّ اللَّهُ تَعَالَى الْمُتَّقِينَ بِهِدَايَتِهِ وَإِنْ كَانَ هُدًى لِلْخَلْقِ أَجْمَعِينَ تَشْرِيفًا لَهُمْ، لِأَنَّهُمْ آمَنُوا وَصَدَّقُوا بِمَا فِيهِ”.
والعلاجُ أن نربطَ أبناءَنا بالقرآن تدبرًا وفهمًا، لا قراءةً شكليةً فقط.
ثالثًا: صحبة العلماء وأهل الإيمان
من أهمّ أسبابِ الثباتِ على اليقين المجالسُ الإيمانية. قال رسول الله ﷺ: “ ما اجتمَعَ قومٌ في بيتٍ من بيوتِ اللَّهِ يتلونَ كتابَ اللَّهِ، ويتدارسونَهُ فيما بينَهم إلَّا نزلَت عليهِم السَّكينةُ، وغشِيَتهُمُ الرَّحمةُ، وحفَّتهُمُ الملائكَةُ، وذكرَهُمُ اللَّهُ فيمَن عندَهُ» (رواه مسلم 2699).
فالمساجدُ واللقاءاتُ العلميةُ هي حصونٌ ضدّ الشبهات، ومصانعُ لإعداد العقول الواعية.
رابعًا: كشف زيف الشبهات المادية
على الدعاةِ والمربين أن يبيّنوا للشباب أن العلم التجريبي محدود، وأنه لا يفسرُ الغاياتِ الكبرى، بل يصفُ الظواهر فقط.
قال تعالى: ﴿مَا أَشْهَدتُّهُمْ خَلْقَ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَلَا خَلْقَ أَنفُسِهِمْ﴾ [الكهف: 51].
فالباحثُ في المختبرِ قد يصفُ تركيبَ الذرّةِ أو مسارَ الكواكبِ، لكن لا يملكُ جوابًا على سؤال: لِمَ خُلِقنا؟ وإلى أين المصير؟ وهذا جوابُه عند الوحي فقط.
خامسًا: غرس قيمة الصبر والرضا في النفوس
من أعظم ما يُعالجُ به ضعفُ اليقين أن نعلّم أبناءنا معنى الصبر على البلاء. قال ﷺ: «عَجَبًا لأَمْرِ المُؤْمِنِ، إنَّ أمْرَهُ كُلَّهُ خَيْرٌ، وليسَ ذاكَ لأَحَدٍ إلَّا لِلْمُؤْمِنِ، إنْ أصابَتْهُ سَرَّاءُ شَكَرَ، فَكانَ خَيْرًا له، وإنْ أصابَتْهُ ضَرَّاءُ، صَبَرَ فَكانَ خَيْرًا له» (رواه مسلم 2999). فإذا وُطّن القلبُ على أن البلاءَ امتحانٌ، لا اعتراضٌ، كان ذلك درعًا واقيةً من الشكوك.
سادسًا: الدعاء واللجوء إلى الله
كان رسول الله ﷺ يُكثر أن يقول: «يا مقلِّبَ القلوبِ ثَبِّتْ قلبِي على دينِك» (رواه الترمذي 2140 صحيح).
فاليقينُ هبةٌ من الله، ولا يملكُ العبدُ إلا أن يضرعَ إلى مولاه أن يثبّته.
أيها المسلمون، العلاجُ الحقّ للإلحادِ ليس في الجدلِ العقيمِ فقط، وإنما في بناء الشخصية المؤمنة التي تشبعُ عقلًا بالعلم، وروحًا بالعبادة، ونفسًا بالطمأنينة، ومجتمعًا بالصحبة الصالحة.
العنصر الرابع من خطبة الجمعة القادمة بعنوان : اليقينُ حصنُ الإيمانِ في مواجهةِ الإلحاد ، للدكتور أحمد رمضان
الْعُنْصُرُ الرَّابِعُ: مَسْؤُولِيَّتُنَا فِي مُوَاجَهَةِ الإِلْحَادِ وَتَرْبِيَةِ الأَجْيَالِ عَلَى الْيَقِينِ
عبادَ الله، إنَّ ظاهرةَ الإلحادِ ليست شأنًا فرديًّا يُعالج في زاويةٍ مغلقةٍ، وإنما هي تحدٍّ للأمة بأسرِها، يقتضي وعياً جماعياً وموقفاً عملياً من الجميع: الآباء والأمهات، العلماء والدعاة، المدارس والجامعات، الإعلام والمؤسسات الثقافية. فكلٌّ مسؤولٌ أمام الله عن حمايةِ عقول الأجيال وقلوبهم من هذا الداء الفتَّاك.
أولًا: دور الأسرة
الأسرةُ هي الحصنُ الأولُ للأبناء. يقول الغزالي في إحياء علوم الدين (ج 3، ص 72): “الصبي أمانة عند والديه، فإن عوّداه الخير نشأ عليه، وإن تركاه للهوى والشيطان هلك”.
فعلى الوالدين أن يغرسوا في نفوس أبنائهم الإيمانَ البسيطَ المصفَّى: محبة الله، عظمته، مراقبته، واليقين بوعده ووعيده. ومن واجبهم أن يجيبوا عن تساؤلات أبنائهم بصدرٍ رحبٍ، لا أن يقابلوها بالقسوة أو السخرية، فإن الشكوكَ قد تنبتُ من فراغ الحوار.
ثانيًا: دور العلماء والدعاة
العلماءُ هم ورثةُ الأنبياء، وهم صمامُ الأمان في مواجهة الشبهات. قال رسول الله ﷺ: «وإنَّ العلماءَ ورثةُ الأنبياءِ، وإنَّ الأنبياءَ لم يُورِّثُوا دينارًا ولا درهمًا، إنما ورَّثُوا العِلمَ فمن أخذَه أخذ بحظٍّ وافرٍ» (رواه أبو داود 3641 والترمذي 2682 بسند حسن).
فعليهم أن يخرجوا من دائرةِ التكلّف اللغويِّ والجدل العقيم، إلى خطابٍ معاصرٍ يخاطب عقلَ الشابّ، ويجيبُ عن أسئلته، ويقدّم الأدلةَ بلغةٍ يفهمها، لا بلغةٍ ينفر منها.
ثالثًا: دور المدرسة والجامعة
إن المناهجَ التعليمية ينبغي أن تُبنى على دمج اليقين بالعلم. فالتجربةُ العلميةُ لا تُعارض الوحي، بل تُعزّزه. قال تعالى: ﴿سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ﴾ [فصلت: 53].
فالعلومُ الطبيعيةُ والفلكيةُ والبيولوجيةُ ليست خصمًا للإيمان، بل هي أبوابٌ جديدةٌ لرؤية آيات الله. وعلى المؤسسات التعليمية أن تزيلَ هذا التضادَّ الموهومَ بين العلم والدين.
رابعًا: دور الإعلام والثقافة
الإعلامُ اليوم سلاحٌ ذو حدين: إما أن يكون جسرًا إلى الهداية، أو طريقًا إلى الشكوك. والمسؤولية أن نُنتجَ أعمالًا هادفةً – مقالاتٍ، أفلامًا، برامجَ وثائقية – تُظهر جمالَ الإسلام ورسوخَ اليقين، لا أن نترك الساحةَ للعبثِ والإفساد.
خامسًا: التربية على القدوة العملية
اليقينُ لا يترسّخُ في النفوس بمجرد الكلام، وإنما بالقدوة. قال تعالى: ﴿لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ﴾ [الأحزاب: 21]. فينبغي للمربين والدعاة أن يكونوا أوّل المطبقين لما يدعون إليه. فإنّ أعظم ما ينفّر الناسَ عن الدين أن يروا العالمَ يقول ما لا يفعل. وقد قال مالك بن دينار: “إن العالم إذا لم يعمل بعلمه زلّت موعظته عن القلوب كما يزِلّ المطر عن الصفاة”.
سادسًا: المسؤولية الجماعية للأمة
أيها الأحبة، إن مواجهةَ الإلحاد ليست مسؤولية العلماء وحدهم، بل هي مسؤولية كل مؤمن. قال رسول الله ﷺ: «كلُّكم راعٍ وكلُّكم مسؤولٌ عن رعيتِهِ» (متفق عليه). البخاري (2554)، ومسلم (1829).
فكل مسلمٍ يستطيع أن يكون داعيةً بالقدوة، معلّمًا بالكلمة، محصّنًا لغيره بالصحبة الصالحة.
أيها المسلمون، إن اليقينَ هو الحصنُ الأخيرُ الذي إن انهدمَ ضاع الدين، وضاع معه الأمنُ النفسي والاجتماعي. وإن أمتنا لا تنهضُ إلا بجيلٍ مؤمنٍ واثقٍ، يجمع بين العلم والدين، بين العقل والروح، بين العمل واليقين.
أيُّها الإخوةُ الأحبَّة، بعدَ أن طُفْنا في رياضِ اليقينِ، ورأينا كيفَ يُشكِّلُ درعاً واقياً في مواجهةِ موجاتِ الإلحادِ والشبهاتِ، تبيَّن لنا أنَّ العلاجَ يبدأُ من الداخلِ: من يقظةِ القلبِ، وصِدقِ التوجُّهِ، وحسنِ التربيةِ، وقوةِ القدوةِ. فاليقينُ هو حياةُ القلبِ، وهو السكينةُ عندَ الشدائدِ، وهو الثباتُ عندَ الفتنِ، وهو الأمنُ النفسيُّ الذي يُبْطِلُ وساوسَ الإلحادِ والتشكيكِ.
أيُّها الأحبة، إنَّ شمسَ اليقينِ إذا أشرقت في القلبِ، أضاءت ظلماتِ الحيرةِ والشكِّ، وصار المؤمنُ كالجبلِ الراسخِ، لا تهزُّهُ ريحُ الشبهاتِ، ولا تُغريه زخارفُ الأباطيل. قال تعالى: ﴿فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ﴾ [هود: 123].
اللَّهُمَّ إِنَّا نَسْأَلُكَ يَقِينًا صَادِقًا، وَقَلْبًا خَاشِعًا، وَعِلْمًا نَافِعًا، وَعَمَلًا مُتَقَبَّلًا، وَرِزْقًا حَلَالًا، وَاسِعًا.
اللَّهُمَّ ثَبِّتْ قُلُوبَنَا عَلَى دِينِكَ، وَنَوِّرْ بَصَائِرَنَا بِنُورِ الْقُرْآنِ، وَاجْعَلْنَا مِنَ الْمُوقِنِينَ الْمُخْلِصِينَ.
اللَّهُمَّ احْفَظْ أَبْنَاءَنَا وَبَنَاتِنَا مِنْ شُبُهَاتِ الْإِلْحَادِ وَأَفْكَارِ الزَّيْغِ وَالانْحِرَافِ، وَازْرَعْ فِي قُلُوبِهِمْ حُبَّكَ وَحُبَّ نَبِيِّكَ وَحُبَّ كِتَابِكَ. اللَّهُمَّ اجْعَلْنَا مِفْتَاحًا لِلْخَيْرِ، مِغْلَاقًا لِلشَّرِّ، وَاخْتِمْ لَنَا بِالسَّعَادَةِ وَالْغُفْرَانِ.
وصلَّى اللهُ وسلَّم وبارَك على سيِّدنا محمّدٍ، وعلى آلهِ وصحبِه أجمعين.
د. أحمد رمضان
العنصر الخامس من خطبة الجمعة القادمة بعنوان : اليقينُ حصنُ الإيمانِ في مواجهةِ الإلحاد ، للدكتور أحمد رمضان
العنصر الخامس: الخطبة الثانية : تَنْظِيمُ الأُسْرَةِ وَالتَّنْمِيَةُ البَشَرِيَّةُ
الحمدُ للهِ الَّذِي خَلَقَ الإِنْسانَ فَأَحْسَنَ خَلْقَهُ، وَجَعَلَ لَهُ مِنَ الزَّوْجِيَّةِ سَكَنًا وَمَوَدَّةً وَرَحْمَةً، نَحْمَدُهُ سُبْحانَهُ وَنَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَنَشْهَدُ أَنَّ سَيِّدَنَا مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَمَّا بَعْدُ:
يا عِبادَ اللهِ، إِنَّ الأُسْرَةَ أُسُّ البِنَاءِ وَقَاعِدَةُ العُمْرانِ؛ مِنْهَا يَتَكَوَّنُ الإِنْسانُ وَفِيهَا تُصَاغُ مَعالِمُ شَخْصِيَّتِهِ. قَالَ تَعالى: ﴿وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجًا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَزْواجِكُمْ بَنينَ وَحَفَدَةً وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ﴾ [النحل: 72]؛ فَمَا شَرَعَ اللهُ الزَّوْجِيَّةَ إِلَّا لِتَكُونَ سَكَنًا وَمَوْضِعَ تَرْبِيَةٍ وَتَعَاوُنٍ عَلَى الخَيْرِ. وَإِذْ حَثَّ النَّبِيُّ ﷺ عَلَى التَّزَوُّجِ وَالتَّكَاثُرِ قَالَ: «تَزَوَّجُوا الوَدُودَ الوَلُودَ، فَإِنِّي مُكاثِرٌ بِكُمُ الأُمَمَ» [أبو داود 2050]، فَلَمْ يَقْصِدِ العَدَدَ لِذَاتِهِ، بَلِ العَدَدَ الَّذِي تَقُومُ بِهِ الأُمَّةُ قَوِيَّةً مُؤَهَّلَةً. وَمِنْ هُنَا يَظْهَرُ مَعْنَى «التَّنْظِيمِ»؛ أَنْ تُقَدِّرَ الأُسْرَةُ طَاقَتَهَا فِي إِنْجَابِهَا وَتَرْبِيَتِهَا؛ لِكَيْ لَا تَكُونَ كَثْرَةٌ مُوْهِمَةٌ تُضْعِفُ وَلَا تُقَوِّي.
وَمِفْتَاحُ الفَهْمِ أَنَّ الشَّرْعَ يَطْلُبُ «القُوَّةَ»؛ ﴿وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ﴾ [الأنفال: 60]، وَالقُوَّةُ لَا تَحْصُلُ بِعَدَدٍ مُجَرَّدٍ، بَلْ بِعِلْمٍ وَتَرْبِيَةٍ وَقِيَمٍ. لِذَلِكَ قَالَ ﷺ: «المُؤْمِنُ القَوِيُّ خَيْرٌ وَأَحَبُّ إِلَى اللهِ مِنَ المُؤْمِنِ الضَّعِيفِ، وَفِي كُلٍّ خَيْرٌ» [مسلم 2664]؛ أَيْ قُوَّةُ العَزِيمَةِ وَالعِلْمِ وَالصَّبْرِ. فَإِذَا زَادَ العَدَدُ وَضَعُفَ الإِعْدادُ، صِرْنَا إِلَى ضَعْفٍ مُقَنَّعٍ، وَتَمَثَّلَ فِينَا وَصْفُ النَّبِيِّ ﷺ: «غُثَاءٌ كَغُثَاءِ السَّيْلِ» [أبو داود 4297، صحيح]؛ كَثْرَةٌ تَتَدَافَعُ وَلَا ثِقْلَ لَهَا.
وَمِنْ مَقاصِدِ الشَّرِيعَةِ «حِفْظُ النَّسْلِ»، وَلَا يَتِمُّ ذَلِكَ بِالتَّوَالُدِ فَقَطْ، بَلْ بِالتَّرْبِيَةِ وَالكِفَايَةِ؛ ﴿وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعافًا خَافُوا عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُوا اللهَ وَلْيَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا﴾ [النساء: 9]. وَقَدْ قَالَ ﷺ: «كَفَى بِالمَرْءِ إِثْمًا أَنْ يُضَيِّعَ مَنْ يَقُوتُ» [أبو داود 1692، صحيح]؛ فَالتَّضْيِيعُ إِمَّا بِنَقْصِ النَّفَقَةِ وَإِمَّا بِتَرْكِ التَّأْدِيبِ، وَكِلَاهُمَا خَطَرٌ. مِنْ ثَمَّ كَانَ «تَنْظِيمُ الأُسْرَةِ» تَدْبِيرًا رَاشِدًا لِتُعْطِيَ كُلَّ نَفْسٍ حَقَّهَا مِنَ الرِّعَايَةِ وَالعِلْمِ وَالحِفْظِ؛ وَقَدْ فَعَلَ الصَّحَابَةُ «العَزْلَ» وَالقُرْآنُ يَنْزِلُ [البخاري 5208]، فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى جَوَازِ التَّنْظِيمِ قَبْلَ الحَمْلِ فِي حُدُودِ الضَّوَابِطِ، مَا لَمْ تُنْوَ قَطِيعَةُ النَّسْلِ وَلَا يَثْبُتْ ضَرَرٌ.
وَلِأَنْ لَا يَتَوَهَّمَ مُتَوَهِّمٌ أَنَّ التَّنْظِيمَ نَقِيضُ التَّوَكُّلِ، نَقُولُ: التَّوَكُّلُ حَقِيقَتُهُ الثِّقَةُ بِالرِّزَّاقِ مَعَ الأَخْذِ بِالأَسْبَابِ؛ «لَوْ أَنَّكُمْ تَوَكَّلْتُمْ عَلَى اللهِ حَقَّ تَوَكُّلِهِ، لَرُزِقْتُمْ كَمَا تُرْزَقُ الطَّيْرُ؛ تَغْدُو خِمَاصًا وَتَرُوحُ بِطَانًا» [الترمذي 2344، حسن]؛ فَالطَّيْرُ تَخْرُجُ وَتَسْعَى، كَذَلِكَ الأُسْرَةُ تُخَطِّطُ وَتُرَتِّبُ وَتَأْخُذُ بِسُنَنِ السَّبَبِ.
وَالتَّنْمِيَةُ البَشَرِيَّةُ – رَحِمَكُمُ اللهُ – لَيْسَتْ أَرْقَامَ دَخْلٍ وَجُدُولَاتٍ فَقَطْ، بَلْ صِيَاغَةُ إِنْسانٍ مُتَّزِنٍ؛ عَقْلًا وَقَلْبًا وَسُلُوكًا. وَمَعْمَلُ هَذِهِ الصِّيَاغَةِ هُوَ «البَيْتُ». فَإِذَا طَابَتِ البِذْرَةُ وَحَسُنَتِ الأَرْضُ وَالمَاءِ، خَرَجَ الزَّرْعُ حَبًّا مُتَراكِبًا؛ وَإِنْ أُلْقِيَتِ البُذُورُ كَثِيرَةً فِي تُرْبَةٍ فَقِيرَةٍ كَانَ النَّبَاتُ هَشًّا لَا يُثْمِرُ. هَكَذَا الأَبْنَاءُ: قَلِيلٌ مُؤَهَّلٌ خَيْرٌ مِنْ كَثْرَةٍ مُهْمَلَةٍ. وَمِنْ حِكْمَةِ القُرْآنِ أَنْ جَعَلَ القِسْطَ مِيزَانًا عَامًّا: ﴿وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا﴾ [الفرقان: 67]؛ فَهُوَ قَوَامٌ فِي الإِنْفَاقِ، وَقَوَامٌ فِي الإِنْجَابِ، وَقَوَامٌ فِي كُلِّ شَأْنٍ.
وَمِنْ سُنَنِ السَّعَادَةِ أَنْ يَجِدَ الإِنْسانُ أَمْنًا وَعَافِيَةً وَكِفَايَةً؛ «مَنْ أَصْبَحَ مِنْكُمْ آمِنًا فِي سِرْبِهِ، مُعَافًى فِي جَسَدِهِ، عِنْدَهُ قُوتُ يَوْمِهِ، فَكَأَنَّمَا حِيزَتْ لَهُ الدُّنْيَا» [الترمذي 2346، حسن]؛ فَلَيْسَ المَقْصُودُ أَنْ نُكَاثِرَ مَعَ عَوَزٍ وَعَجْزٍ، بَلْ أَنْ نُحَقِّقَ الكِفَايَةَ الكَرِيمَةَ وَالتَّرْبِيَةَ القَوِيَّةَ. وَهُنَا تَبْرُزُ المَسْؤُولِيَّةُ: «كُلُّكُمْ رَاعٍ، وَكُلُّكُمْ مَسْؤُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ» [البخاري 893]؛ فَالْأَبُ وَالأُمُّ لَهُمَا رِعَايَةٌ وَسُؤَالٌ يَوْمَ القِيَامَةِ؛ «إِنَّ اللهَ سَائِلٌ كُلَّ رَاعٍ عَمَّا اسْتَرْعَاهُ: أَحَفِظَ أَمْ ضَيَّعَ؟» [أحمد 15409، حسن].
فَإِذَا قِيلَ: أَيُقَلِّلُ التَّنْظِيمُ عَدَدَ المُسْلِمِينَ؟ قُلْنَا: إِنَّما الشَّأْنُ أَنْ يَزِيدَ «وَزْنُهُم» وَأَثَرُهُم؛ فَالكَثْرَةُ الَّتِي لَا تُسْنِدُهَا تَرْبِيَةٌ تُنْتِجُ «غُثَاءً»، وَالقِلَّةُ المُؤَهَّلَةُ تُنْتِجُ قُوَّةً وَحِفْظًا لِلدِّينِ وَالدُّنْيا. وَإِذَا قِيلَ: أَهُوَ دَخِيلٌ مَفْرُوضٌ؟ قُلْنَا: العِبْرَةُ بِالمَصْلَحَةِ الشَّرْعِيَّةِ؛ «فَالشَّرِيعَةُ مَبْنَاهَا عَلَى الحِكَمِ وَالمَصَالِحِ لِلعِبَادِ» [إعلام الموقعين 3/11]، فَحَيْثُ وُجِدَتِ المَصْلَحَةُ المُنْضَبِطَةُ وُجِدَ حُكْمُ اللهِ.
يا أَيُّهَا الأَحِبَّةُ، إِنَّنَا بَيْنَ طَرَفَيْنِ مَذْمُومَيْنِ: إِسْرَافٌ فِي العَدَدِ يُفْقِرُ وَيُضَيِّعُ، وَتَعْطِيلٌ لِسُنَّةِ التَّوالُدِ يُجَفِّفُ المَنَابِعَ؛ وَالبِرُّ كُلُّهُ فِي «القَوَامِ»: تَخْطِيطٌ حَكِيمٌ، وَتَرْبِيَةٌ مُتَّسِقَةٌ، وَمَسْؤُولِيَّةٌ دَائِمَةٌ. هَكَذَا نَنْتَقِلُ مِنْ كَثْرَةٍ «كَغُثَاءِ السَّيْلِ» إِلَى قِلَّةٍ «ثَقِيلَةِ الوَقْعِ»؛ قِلَّةٍ تَبْنِي وَتُقِيمُ وَتَدْفَعُ.
اللَّهُمَّ أَلِّفْ بَيْنَ قُلُوبِنَا، وَصَلِحْ بُيُوتَنَا، وَبَارِكْ فِي أَوْلَادِنَا، وَارْزُقْنَا رِعَايَةً حَكِيمَةً وَتَرْبِيَةً قَوِيَّةً. اللَّهُمَّ اجْعَلْنَا قُوَّةً لِدِينِكَ، وَنَهْضَةً لِأُمَّتِكَ، وَاحْفَظْ بِلادَنَا وَسَائِرَ بِلادِ المُسْلِمِينَ. وَصَلَّى اللهُ عَلَى سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ، وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ.
المراجع: القرآن الكريم
كتب الحديث: صحيح البخاري، صحيح مسلم، سنن أبي داود، سنن ابن ماجه، سنن الترمذي (الجامع الكبير)، مسند أحمد، المعجم الكبير للطبراني.
ثالثًا: كتب التفسير وشروح الحديث وغيرهما: تفسير الطبري (جامع البيان عن تأويل آي القرآن)، تفسير القرطبي (الجامع لأحكام القرآن) ، تيسير الكريم الرحمن للسعدي، حلية الأولياء لأبي نعيم، إحياء علوم الدين للغزالي، الجواب الكافي لابن القيم، مَدَارِجِ السَّالِكِينَ لابن القيم، حلية الأولياء لأبي نعيم.
د. أحمد رمضان
خُطبةُ صوتِ الدعاةِ – إعداد رئيس التحرير: الدكتور أحمد رمضان
_______________________________
للإطلاع علي قسم خطبة الجمعة القادمة
وأيضا للإطلاع علي قسم خطبة الجمعة
–للإطلاع علي قسم خطبة الجمعة باللغات
وكذلك للإطلاع ومتابعة قسم خطبة الأسبوع و خطبة الجمعة القادمة
-كذلك للمزيد عن أسئلة امتحانات وزارة الأوقاف
وأيضا للمزيد عن مسابقات الأوقاف